الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم حكى زيادة على ما قلناه للشافعي رضي اللّه عنه، ووجد في كتبه، استشهادات من المسائل بعيدة، وجواب الشافعي عنها، وكذب الجاهل في تلك الزيادات.والمنقول عن الشافعي رضي اللّه عنه في كتبه، هذا الذي ذكرناه من القواطع الأصولية، التي يتلقاها العقل والشرع بالقبول والاتباع.والعجب أنه كما لم يفهم كلام الشافعي، لم يفهم كلام السائل أيضا، حيث قال: «أجد جماعا وجماعا».قال: السائل قصد بذلك أن يتبين أن المعنى إذا لم يتضح فاسد وجه فيه الشبه. فقال: «أجد جماعا وجماعا» والشافعي أبان الفرق بينهما بالمعنى الذي ذكره، فلا هو اهتدى إلى وجه الشبه، ولا إلى وجه الحجة، وإنما كان الذي ناظره محمد بن الحسن.ثم قال هذا الجاهل بفرط جهله: وسرور الشافعي بمناظرة مثله، يدل على أنهما كانا كالمتقاربين في المناظرة، وإلا فلو كان عنده في معنى المبتدي والغبي العامي، لما أثبت مناظرته إياه في كتابه، ولو كلم به المبتدئون من أصحابنا لما خفى عليهم عوار هذه الحجاج، وضعف السائل والمسئول فيه.هذا لفظ الرازي نقلته على وجهه من كتابه الذي سماه أحكام القرآن.والذي ذكره من الوقيعة في إمامنا الشافعي رضي اللّه عنه، يكفيه في الجواب عنه جهله بقدر الشافعي أولا، وجهله بكلامه الذي حكيناه وشرحناه، وللّه يوم يخسر فيه المبطلون.ولو أن المحققين يعلمون أن في إيضاحنا لجهله بمعنى كلام الشافعي أتم انتصار منه، لتجاوزنا ذلك إلى ما سواه.ومما ذكره الشافعي رضي اللّه عنه أن قال: كيف يتهيأ لعاقل أن يفهم من قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ} أن من قبل امرأة بشهوة، حرم على ابنه التزوج بها تلقيا من قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ}.أترى ذلك من قبيل ما يسمى نكاحا على تقدير عرف الشرع، أو عرف اللغة وموجبها؟ولو نظر إلى فرجها فكذلك، ولو نظر إلى سائر بدنها فلا، ولو نظرت إلى فرج رجل، حرم على ابنه أن ينكحها تلقيا من قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ}، أو تلقيا من قوله: {وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ} أو من قوله: {وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ}.أليس ترك هذا القول خيرا من نصرته مع ما فيه من المخازي؟وظاهر مذهب الشافعي رضي اللّه عنه، أن اللمس بشهوة في ملك اليمين وفي النكاح، لا يوجب تحريم ما يتعلق تحريمه بالوطء.قوله: {إلّا ما قد سلف}: فيه نظر، فإنه قال: {وَلا تَنْكِحُوا} ثم قال: {إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ}.وظاهر ذلك أن الذي سلف كان نكاحا، إلا أن قوله: {إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتًا وَساءَ سَبِيلًا} يرده فمعنى قوله: {إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ}، أي إلا ما قد سلف فإنكم غير مؤاخذين به.فعلى هذا قوله: {إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ}، استثناء منقطع كقولهم: «لا تلق إلا ما لقيت، يعني لكن ما لقيت فلا لوم عليك فيه».وقوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً}.يعني بعد النهي، وإلا فقبل النهي ليس بفاحشة، لا قبل المبعث ولا بعده، فعلى هذا قوله: {إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ}، يعني فإنه يسلم منه بتركه والتوبة منه.نعم، في هذه الآية دلالة ظاهرة للشافعي رضي اللّه عنه، في أن من تزوج امرأة ابنه، ثم وطئها مع العلم بالنهي والتحريم إنه زان، لأنه تعالى قال: {إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتًا وَساءَ سَبِيلًا}.كما قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا}.فذكر في نكاح امرأة الأب مثل ذلك.فإن قيل: إنه إذا كان عندكم النكاح بمعنى العقد، والعقد لم ينعقد، فليس ثم زنا، فما معنى قوله: {فاحِشَةً وَمَقْتًا وَساءَ سَبِيلًا} والفاحشة عندكم ترجع إلى العقد، وليس في ذلك ما يوجب الحد؟ وهذا سؤال القوم.والجواب عنه: أنه لما جعل العقد فاحشة، لم يكن فاحشة لعينه، وإنما كان فاحشة لحكمه ومقصوده، فلولا أن مقصوده أعظم وجوه الفواحش، وليس فيه شبهة، ما جعل الذريعة اليه فاحشة ومقتا، وهذا في غاية الوضوح فاعلمه.قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} الآية [23]:حرم اللّه تعالى من النسب سبعا ومن الصهر سبعا ثم قال: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ}.واللفظ ليس حقيقة في أمهات الأمهات، وأمهات الآباء، والأجداد:والتحريم شامل، نعم اسم الأمهات ينطلق عليهن عرفا، فلا جرم اكتفى بإطلاق العرف عن ذكرهن.والدليل على أن اسم الأمهات ليس حقيقة في الجدات، أن الصحابة لم يفهموا من ميراث الأبوين ميراث الجدات والأجداد، حتى بينه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، واستنبطه أهل الإجماع بدقيق النظر، وروى لهم الراوي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أطعم الجدة بالسدس، واختلفوا في الجد مع الأخ، ولم يجهلوا معنى الاسم، وكان الإجماع انعقد على تحريم الجدات وهو الأصل.فإذا ثبت ذلك، فقد حرم اللّه تعالى بعد الأمهات الأخوات، وذكر بنات الأخوات، وبنات الأخ، لأن اسم الأخ لا يتناول ابن الأخ مجازا ولا حقيقة.واعلم أن اللّه تعالى وضع هذا التحريم على ترتيب عجيب، فحرم أولا أصول الإنسان عليه وفصوله، وفصول أصوله الأولى بلا نهاية، وحرم فصول فصوله بلا نهاية، وحرم أول فصول كل أصل ليس قبله أصل إلى غير نهاية، وهو أولاد الإخوة والأخوات، وحرم أول فصل من كل أصل قبله أصل آخر بينه وبين الناكح، وهو أولاد الجد وأبو الجد، فإن التحريم مقصور، وابنة الخال، على أول فصل، فابنة العم، وابنة العمة، وابنة الخالة حلال، ثم قال: و{أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}.فحرم من الرضاع ما حرم من النسب، غير أن في الرضاع لم يذكر بنات الأخ والعمات والخالات من الرضاعة، ودل على ذلك قول الرسول صلّى اللّه عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». وقال تعالى: {وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ}. وقد حرم اللّه تعالى الأم من الرضاعة، من غير تعرض لما به يحصل الرضاع.من مقدار الرضاع ومدته، فالتعلق بهذه الآية في إثبات التحريم بالرضعة الواحدة تعلق بالعموم، الذي سيق لغرض آخر غير غرض التعميم، إلا أن صيغة العموم وقعت صلة في الكلام زائدة، ليتوصل بها إلى غرض آخر يستنكره في سياقته، للتعريج على ذكر تفصيل ما يتعلق به حرمة الرضاع، وفي مثله يقول الشافعي رضي اللّه عنه.الكلام يجمل في غير مقصوده ويفصل في مقصوده.وفي الأصوليين من يخالف ذلك.وقد شرحنا ذلك في تصانيفنا في الأصول، واليد العليا لمن يذب عن مذهب الشافعي رضي اللّه عنه في ذلك، وهو منع الاستدلال بهذا الجنس من العموم.وذكر الرازي في هذا المقام، أن أخبار آحاد النصوص لا يجوز أن يخصص بها هذا العموم، فضلا عن منع التعلق به، وفيما قدمناه ما يبين فساد قوله.واختلف الناس في لبن الفحل، وهو أن يتزوج المرأة فتلد منه ولدا ويدر لها لبنا بعد ولادتها منه، فترضع منه صبيا.فأكثر العلماء على أن لبن هذا الفحل، يحرم هذا الصبي على أولاد الرجل، وإن كانوا من غيرها، ومن لا يعتبر لا يوجب تحريما بينه وبين أولاده من غيرها.فمن قال بلبن الفحل ابن عباس.وقال ابن سيرين: كرهه قوم، ولم ير به قوم بأسا، ومن كرهه كان أفقه.وهو قول القاسم بن محمد، وعليه الفقهاء المعتبرون مثل الشافعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأبي حنيفة وأصحابه جميعا.وخالف سعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقالوا: لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجل.وقوله تعالى: {وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}، يدل على أن الفحل أب، لأن اللبن منسوب اليه، فإنه در بسبب ولده وهذا ضعيف، فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعا، واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل، وما كان من الرجل إلا وطء هو سبب لنزول الماء منه، وإذا حصل الولد، خلق اللّه للبن، من غير أن يكون اللبن مضافا إلى الرجل بوجه ما، ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن، وإنما اللبن لها فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء.وقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»، يقتضي التحريم من الرضاع، ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل، مثل ظهور نسبة الماء اليه، والرضاع منها، لا جرم الأصل فيه حديث الزهري وهشام ابن عروة عن عروة عن عائشة رضي اللّه عنها، أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة، بعد أن نزل الحجاب، قالت: فأبيت أن آذن له، فلما جاء النبي صلّى اللّه عليه وسلم أخبرته، فقال: ليلج عليك، فإنه عمك تربت يمينك، وقال: أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي اللّه عنها.. وهذا أيضا خبر واحد.ويحتمل أن يكون أفلح مع أبي بكر رضيعي لبان، فلذلك قال:«ليلج عليك فإنه عمك»، وإلا فلم يثبت أنه كان الرضاع قبل التزوج أو بعده، أو كانت امرأة أبي قعيس ولدت منه، فإن قدرت هذه الأمور، فيجوز أن يقدر به ما قال المخالف.وبالجملة، القول فيه مشكل والعلم عند اللّه تعالى، ولكن العمل عليه والاحتياط في التحريم أولى، مع أن قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ}، يقوي قول المخالف فاعلمه.قوله تعالى: {وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} الآية [23]: اعلم أن السلف اختلفوا في اشتراط الدخول في أمهات النساء.فروي عن عليّ اشتراط ذلك، مثل ما في الربائب، وروي عن جابر مثل ذلك، وهو قول مجاهد وابن الزبير.وأكثر العلماء على خلاف ذلك في الفرق بين الربائب وأمهات النساء.فأما من جمع بينهما يقول:الشرط إذا تعقب جملا رجع على الجميع، كالشرط والاستثناء بالمشيئة، وذلك ما قررناه في الأصول، وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة يسلمون الشرط والاستثناء بالمشيئة، ورجوعهما إلى الجميع، فوجب عليهما أن يفرقوا بينهما على كل حال.فكان الفرق أن قوله تعالى: {وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}، ثم قال: {مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}، فنعت الربائب بنعت لا يتقرر ذلك النعت في أمهات النساء، ثم ذكر إضافة، فالظاهر أن الإضافة وهي قوله: {مِنْ نِسائِكُمُ} لصاحبة الصفة، وكانت كالصفة الثانية، فلم يظهر رد النعت الثاني إلى أمهات الثاني، وقبله وصف لا يتصور فيهن، بل الثاني يتبع الأول.ولو قال ظاهرا: «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن»، أو هم أن أمهات النساء من النساء، وذلك وصف للربائب، لا وصف أمهات النساء، فتقرير اللفظ بنات نسائكم اللاتي دخلتم بهن.والمخالف يقول: بل تقديره من حيث العطف: «وأمهات نسائكم وبنات نسائكم» وذلك يقتضي الجمع، فكأنه قال:«وأمهاتهن وبناتهن»، فانصرف الثاني إلى ما انصرف الأول اليه، فتقديره: وأمهات نسائكم، وبنات نسائكم اللاتي في حجوركم، ونساؤكم ممن قد دخلتم بهن.ويجاب عنه بأن الأسماء المتحدث عنها المذكورة، هي التي يصرف النعت إليها دون الأسماء المضاف إليها، إلا أن يتبين أن النعوت للأسماء المضاف إليها بنص، أو بضرب من الدليل يقوم مقامه، فإنك إذا قلت: لعلي بن محمد بن أبي الحسن عليّ ألف درهم، تكون الكنية لعلي دون محمد، وتقول زيد بن عبد اللّه الفقيه قال: ظاهر أن الفقيه هو الاسم المتحدث عنه.فحاصل القول، أن الحكم إنما ورد في أمهات النساء وفي الربائب، وكانت الإضافة من النساء اللاتي دخلتم بهن لا تليق بأمهات النساء، وهي تليق بالربائب، جعل الشرط فيه فيهن، وقام مقام النعت، وكان جعل ذلك للنساء اللاتي أضيف الأمهات إليهن، إذ الأمهات والربائب جميعا دون الربائب ليس بمنصوص، ولم يجر فيه ما وصفتم من قولكم: وبنات نسائكم ونسائكم ممن قد دخلتم بهن، فإن ذلك بإضمار أمور يخرج بها اللفظ عن ظاهره.
|